في عبارة وجيزة حدد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم طبيعة رسالته فقال: «بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» فكان للأخلاق الكريمة والآداب الرفيعة نصيب كبير في تعاليم الإسلام حتى أن الله عز وجل وصف نبيه صلى الله عليه وسلم في مقام المدح والثناء عليه بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} في إشارة إلى أن الخلق الكريم له مكانة عظيمة في هذا الدين.
العدل والحب:
وكان من بين هذه الفضائل التي دعا الإسلام أتباعه إلى التخلق والتمسك بها فضيلتا العدل والحب: فأما العدل فهو قيمة إنسانية أساسية قدرها الإسلام وجعلها من مقومات الحياة الفردية والأسرية والاجتماعية والسياسية، بل واعتبرها غاية عليا لكل الرسالات السماوية يقول تعالى: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ} فبالعدل أنزلت الكتب وأرسلت الرسل وقامت السماوات والأرض.
والعدل هو أن يعطى كل ذي حق حقه، سواء أكان ذو الحق فردًا أم جماعة أم شيئًا من الأشياء أم معنى من المعاني بلا طغيان ولا إخسار، فلا يبخس حقه ولا يجور على حق غيره يقول تعالى: {وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ *أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ * وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ}.
وأما الحب فهو بالنسبة للإنسان غذاء روحي لا يمكن مطلقًا أن يعيش بدونه، فشعوره بأنه منبوذ ومرفوض كفيل بأن يقضي عليه ويجعل منه شخصية غير سوية ترفض المجتمع ويرفضها، وهو ما يدفع الإنسان- كل إنسان- إلى أن يكون له أصدقاء أو التقرب ممن يحبهم ليبادلوه نفس المشاعر حتى لو كانت غير صادقة من أجل إشباع هذه الغريزة الإنسانية المتشوقة دائمًا إلى الحب والتي يمكنه بها الاستمرار في الحياة التي لا تكون بغير الآخرين.
التمييز والتفرقة:
ولعل أطفالنا هم الأكثر احتياجًا للشعور بهذا الحب فعلى الرغم من أنهم لا يولدون اجتماعيين كي يعبروا بالقدر الكافي عن احتياجاتهم العاطفية إلا أنهم يسعون بفطرتهم إلى إرضاء ما لديهم من حاجات نفسية حتى إنهم يرون أن ما يعوق هذا الإرضاء هو عدوان عليهم يكون انعكاسه سلبًا في علاقتهم بالمحيطين بهم، سواء أكان هؤلاء هم: الإخوة أو الأب والأم أو غيرهم وهو ما يؤكد أهمية إشباع الحاجات النفسية للطفل باعتبار أن ذلك أحد مفاتيح النجاح في العملية التربوية.
وتعد التفرقة والتمييز بين الأبناء أهم أسباب فقدان الشعور بهذا الحب داخل أول مؤسسة يرتبط بها الطفل وتتفتح عليها عيناه وهي الأسرة، فيكون تأثيرها أكثر فداحة لما لها من الدور الأكبر والأكثر تأثيرًا في تشكيل وتحديد ملامح شخصية الطفل الذي سيكون فيما بعد عنصرًا فاعلًا في مجتمعه.
وهو ما اهتم به الإسلام وحرص على التنبيه عليه، بل وحذر من الوقوع فيه لإدراكه الكامل للأثر النفسي الذي يمكن أن تحدثه مثل هذه المعاملة في نفوس الأطفال فتملأ نفوسهم حقدًا وكراهية، ولأن مثل هذه المفاضلة يمكن أن تكون أعظم عوامل الانحراف وهم لا يزالون صفحات بيضاء فأمر بالعدل بين الأولاد والتسوية بينهم في العطف واللطف والمنح والإعطاء والإحسان والرحمة فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «اعدلوا بين أبنائكم في النحل- أي العطية والهبة- كما تحبون أن يعدلوا بينكم في البر واللطف».
توجيهات نبوية:
وعن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: أعطاني أبي عطية فقالت عمرة بنت رواحة أم النعمان: لا أرضى حتى تشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إني أعطيت ابني من عمرة بنت رواحة عطية فأمرتني أن أشهدك يا رسول الله. قال عليه الصلاة والسلام: «أعطيت سائر ولدك مثل هذا؟» قال: لا. فقال صلى الله عليه وسلم: «فاتقوا الله واعدلوا بين أولادكم». قال فرجع فرد عطيته. وفي رواية أخرى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لبشير والد النعمان: «لا تشهدني على جور أليس يسرك أن يكونوا لك في البر سواء». قال: نعم. قال: «أشهد على هذا غيري».
وهنا يكشف لنا الحديث رفض الرسول صلى الله عليه وسلم لهذا السلوك الذي هو أنموذج للتمييز بين الأبناء، بل إنه صلى الله عليه وسلم اعتبره جورًا لا يمكن أن يكون شاهدًا عليه حتى يتحقق العدل بين النعمان بن البشير وإخوته.
وروى ابن حبان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «رحم الله والدًا أعان ولده على بره» فالحديث يربط بين أن يبر الابن أباه عند كبره، وبين أن يحسن الأب معاملة ابنه في صغره. ومن أعظم صور الإحسان أن يعدل الآباء بين الأبناء، فلا ينشأ الحقد في قلوبهم، ولا تفسد الصلة بينهم، ولا تحمل النفس شيئًا إزاء الآباء.
دوافع التمييز:
وتتعدد الأسباب التي تدفع الآباء للتمييز بين أبنائهم فمنها: التفرقة بين الذكور والإناث فيكون الحب والتدليل للولد دون البنت على الرغم من أنه لا ذنب للبنت في كونها بنتًا بل إن الأمر كله بيد الله فهو القائل: {لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاء يَهَبُ لِمَنْ يَشَاء إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاء الذُّكُورَ * أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاء عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ}.
كما يروى عن أنس بن مالك: أن رجلًا كان عند النبي صلى الله عليه وسلم فجاء ابن له فقبله وأجلسه على فخذه، وجاءت ابنة له فأجلسها بين يديه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا سويت بينهما» فالرسول الكريم يحرص على تحقيق هذا العدل وهذه المساواة حتى في أشكالها البسيطة التي ربما لا يلتفت لها الكبار، غير أن لها تأثيرها الكبير على الصغار، فالرجل وقد أجلس الاثنين- الولد والبنت- إلا أنه أجلس الولد في موضع، والبنت في موضع آخر وهو ما يمكن أن يؤثر في نفس أحدهما.
وفي مقابل التمييز الذي يأتي لصالح الذكور من الأبناء يقع آباء آخرون في التمييز المضاد فيميزون بناتهم على ذكورهم نتيجة حالة خوف مرضي من الوقوع فيما نهى الإسلام عنه، فيحرصون على تدليل البنات وتلبية كل احتياجاتهم ويقدمون لهن كل المساعدة في زواجهن بل ويبالغون في ذلك، في الوقت الذي لا يقدمون يد العون للولد من أجل بناء حياته وتحقيق الاستقرار.
كذلك يمكن أن يقع التمييز لصالح أبناء زوجة على حساب أبناء زوجة أخرى، كما هو الحادث في حديث النعمان بن البشير السابق ذكره، أو أن يكون التمييز لأحد الأبناء بسبب جمال منظره أو نبوغ عقله وتفوقه العلمي، أو لأنه قريب الشبه فيما بينه وبين أحد الوالدين أو لقوة بنيانه الجسدي أو لذكائه الاجتماعي في التعامل، أو لكونه أصغرهم أو أكبرهم أو لأنه صاحب موهبة.
لكنه وأيًّا كانت الأسباب التي تدفع أحد الوالدين أو كلاهما إلى تمييز أحد الأبناء على الآخرين حتى ولو كان ذلك عبر المقارنة فقط، فإن في ذلك إخلالًا بواجبات الوالدية التي تظل آثارها مصاحبة لهذا الابن أو تلك الابنة مدى الحياة.
الكاتب: أسامة الهتيمي.
المصدر: موقع رسالة الإسلام.